١.
كان من بين أساتذتي سابقا أستاذ اعتاد أن يقرأ الكتب العشرة ذاتها كلّ سنة. وأطلق عليها اسم ‘العشرة’. ومن بينها كانت كانديد وسيدهارتا ورسائل سكروتابي وتأمّلات ماركوس أوريليوس كتباً قارّة؛ وكان يبدّل الكتب الأخرى بعد مجموعة ستّ أو سبع سنوات. ولقد وجدتني مأخوذا بهذه الفكرة بحيث قرّرت أن أقوم أنا أيضا بإعادة قراءة كتاب ما سنويّا. أمّا الكتاب فهو موبي-ديك، وأمّا موعد البداية فهو عيد الميلاد لكلّ سنة، اليوم الذي تبحر فيه سفينة بيكود.
وهذا ما قمت به في 2017 و2018 و2019. إلاّ أنّني في السّنة الفارطة قرأته ثلاث مرّات. وفي شتاء 2020، قرأته مع طالبة كانت بصدد القيام بدراسة مستقلّة. وأخبرتْ أحد الأصدقاء كم هو رائع موبي-ديك، وتبعا لذلك أراد هو أيضا في الرّبيع التّالي دراسة مستقلّة. وبعد ذلك قمت في الخريف بدراسة مستقلّة أخرى حول موبي-ديك، وهذه المرّة مع طالبين التقيتهما قبل بضعة أشهر فحسب عندما كنّا، كما اتّضح لاحقا، نبني حوتاً.
٢.
“إنّ بناء الحوت ليشبه كثيرا بناء سطح سفينة.” هكذا يقول عالم الأحياء راس هيغلي. ويضيف “يمكنك الحصول على الأجزاء جميعها من متجر هوم ديبو، وهناك بعض الحيل التي إن عرفتها فهي تجعل كلّ شيء أسهل بكثير.”
ويعرف هيغلي الحيل، إذ أنّه بنى هيكل الحوت الرماديّ العظميّ المعلّق في مركز العلوم والتقنية البحريّة لكليّة هاي لاين وهيكل الحوت الأحدب في ميناء فوس ووترواي البحريّ. وقد ساعدني (أنا الذي امتهن تدريس اللّغة الإنجليزية)، في قيادة 158 متطوّعا لدى بناء الهيكل العظميّ للحوت الرماديّ المعلّق الآن في جامعة سياتل باسيفيك.
كان الحوت قد جرفته الأمواج إلى شاطئ لونجبرانتش في الطّرف الجنوبي من شبه جزيرة كيتساب في ولاية واشنطن. وكانت أنثى صغيرة السّنّ، طولها 29 قدما، وأضلاعها بارزة، والجلد الذي عليها كان مثل اللّحاف على الرّكبتين. وكانت معدتها، كما سيكشف التّشريح سريعا، فارغة. سحبنا الحوت إلى ميناء غيغ هاربر، حيث رفعت رافعة السّفينة جثّتها التي تزن 16,000 رطل إلى شاحنة تفريغ. ومن ثمّ قام فريقنا بسلخها في مزرعة قريبة واستعادة عظامها البالغ عددها 250 عظمة ودفنها في كومة من روث الخيل، حيث كانت إنزيماتها والكائنات الأخرى بداخلها ترشح الزّيت من عظامها. وبعد ستّة أشهر قمنا باستخراجها – وهي الآن جافّة تماما – وأحضرناها إلى الحرم الجامعيّ، ووضعناها على سطح لتبيضّ تحت أشعّة الشّمس. وبعدئذ مع حلول أغسطس شرعنا في البناء.
٣.
إنّه لأمر غريب أن تقضي وقتا جدّ طويل مع كتاب على مدار سنة. وأذكر جان جيونو الذي تولّى بمعيّة صاحبه الحميم لوسيان جاك بترجمة موبي ديك إلى الفرنسيّة. ويقول ‘جيونو’ عن تلك التّرجمة “قبل الانطلاق في هذا المشروع بفترة طويلة، بخمس أو ستّ سنوات على الأقلّ، كان كتاب ميلفيل رفيقي الأجنبيّ.”
ماذا يعني لكتاب ما أن يكون رفيقك الأجنبيّ لمدّة عقد تقريبا؟ بالنّسبة إلى جيونو، كان ذلك يعني أن تسير إلى جانب إسماعيل، الذي “كان يرافقني في طريق العودة إلى المنزل” حسب تعبير جيونو. ويشرح ذلك قائلا:
لم يكن عليّ قطّ أن أخطو أكثر من بضع خطوات لألحق به، وأن أصبح هو حالما تكون أعماق الظّلال داكنة. وكنت لأدركه بما بدا خطوة واحدة أطول. ومن ثمّ كان الأمر كما لو كنت قد نفذت إلى جلده، وجسدي مكسوّ بجسده مثل معطف.
ولا يمكنني القول حقّا أنّني أيضا ارتديت إسماعيل مثل المعطف. ومع ذلك يمكنني القول أنّه هو وميلفيل، ومن خلال كلّ تلك القراءات المتكرّرة، كانا ولا يزالان رفيقيّ.
٤.
ومن بين الأعمال جميعها التي كانت تنتظرنا، بدا لنا أنّ قيس الحوت – مهمّتنا الأولى – هو الأيسر. لقد كان علينا أن نعرف إذا كان للحوت أن يسعه البهو الذي تبلغ مساحته 30 قدما. وطلب مني هيغلي أن آتي بحبل إلى الشّاطئ، فجلبت واحدا بطول 200 قدم. فوضع أحد طرفيه في الشقّ الذي بين فصّي ذيل الحوت، ومددت الحبل فوق الجثّة، محاولا تتبّع العمود الفقري قدر المستطاع، مع انزلاق الحبل من المفاصل المعقوفة للعمود الفقريّ الرماديّ النّحيف.
إثر ذلك وضعت ذلك الحبل على الشّاطئ، إلى جانب شريط قيس ذي مدى أقصى. ثمّ صحت وأنا حذو خطم الحوت “تسعمائة وسبعة سنتيمترات.” وأضفت “تسعة وعشرين قدما وتسع بوصات. ستكون ملائمة.”
وعندما أقرأ تشريح الحوت الآن، بعد مرور أشهر، أجد أنّ إدارة ولاية واشنطن للأسماك والحياة البرّية قامت بقيسه بــ 867 سنتيمترا، أي أقصر بــ 16 بوصة تقريبا من القيس الذي حصلنا عليه نحن الاثنين، أنا وهيغلي.
لقد كان ذلك فرقا كبيرا، ولست أدري كيف يمكن تفسيره، بالنّظر إلى أن الإدارة آنفة الذّكر قامت بالقيس بالطّريقة نفسها التي قسنا بها نحن الاثنين باستخدام حبل موضوع بطرفي الحوت. أمّا بالنّسبة لي، فإنّ التّباين يثير سؤالا أكثر أهميّة: هل نستطيع أن نعرف ذات يوم كم يبلغ طول حوت ما حقّا؟
إنّ حوتا حيّا بوزنه الجسيم العائم في مياه المحيط المالحة لا يتوقّف ثابتا مطلقا لفترة كافية، حتّى يكون من الممكن قيس طوله. ومن شأن حوت ميّت أن يرقد على الشّاطئ والجاذبيّة تسحب وزنه إلى الرّمال. إذن هل أنّ لحوت حيّ نفس طول حوت ميّت؟ أنا أشكّ في ذلك لكون ذلك الجسد مشوّه، إمّا طريح ومنكمش بفعل الموت، أو متمدّد ومنتفخ ومتضخّم بفعل كلّ تلك الغازات المتخمّرة. وأيّهما أفضل بيانا لطول حوت ما، قيس الحوت باتّباع تضاريس عموده الفقريّ، أو على نحو مباشر بلا التواء، خطّ مشدود من الخطم إلى الذّيل مماسّ لأعلى مفصل العمود الفقريّ؟ وإذا لم يكن ذلك الحوت الجانح على الشّاطئ مستلقيا على بطنه، بل على جنبه، وجذعه ملتو بحيث يكون فكّه مواجها للسّماء، فإنّ قيسا ليس به عائق يكون مستحيلا – فماذا بعد؟
٥.
وفي خضمّ صعوبة تحديد طول حوت ما، يعرض أصحابي بعض المساعدة. ولمّا يُسئل إسماعيل عمّا إذا كان الحوت نفسه ماء أم هواء، يجيب “يا سيّدي العزيز، ليس من السّهل جدّا في هذا العالم الحسم في هذه الأشياء البيّنة. إنّي لأجد دائما أنّ الأشياء البيّنة لديكم هي الأكثر إشكالا.” ماء أم هواء وطول الحوت، ومع أنّ مثل هذه الأشياء بيّنة، فهي ليست بسيطة.
ولاحقا في الكتاب، فإنّ محاورا خياليّا، محبطا من علم دراسة الحيتانيّات المستفيض لدى إسماعيل، ينبّهه قائلا “احذر كيف تغتنم امتياز يونس وحده.” لكنّ إسماعيل، وهو صائد الحيتان، في وضع يمكنّه من أن يعرف، وأعتقد أنّني أنا أيضا قد أكون في وضع يمكنّني من قول شيء ما، بما أنّني كنت ذات مرّة في فم حوت رماديّ، وضغطت تجاه لسانها، أقطّعه باتّجاه اللّحم الذي يشدّ فكّها، بينما حلقها خلف كتفي.
ويمضي هذا الخصم الخياليّ ليقول إن ليونس وحده “امتياز الحديث عن الرّوافد والعوارض والدّعامات الخشبيّة وقائمة التّقاطع والرّوافد المستعرضة والأساسات التي تشكّل هيكل الحوت الضّخم. ولقد جلستُ في ذلك القفص الصّدري، ورفعتُ قائمة تقاطع العمود الفقري، بينما كنّا نحاول تغيير اتّجاه الهيكل العظميّ بأكمله. وتعاملت مع جميع عظامها التي يبلغ وزنها 518.3 رطلا، وطابقت صفائح النّمو مع الفقرات، وحشرت تجاويف الأنف في الجمجمة، ودورت زوجاً من الوركين بهذا الاتّجاه وذاك لكي أتبيّن، قدر المستطاع، اتّجاههما الصّحيح.
وكما أنّ يونس هو الوحيد الذي يحقّ له أن يتحدّث إلى الهيكل العظميّ، كما يقول محاور إسماعيل، فإن يونس وحده يستطيع أن يتحدّث إلى ما بداخلها من أمعاء وغيرها، “إلى أحواض الشّحم وغرف الألبان والزّبد والأجبان في أحشائها.” لكن حتّى هذه فقد حملتها أيضاً، وقطّعتها من الجسد، ورأيتها مبعثرة في حقل معشوشب، بينما كان فريق الجزارة يقطع الجثّة مرارا وتكرارا باحثا عن العظام ويرمي بالباقي. وكان مبيضاها بحجم كرات السّلّة، وعينها بحجم اللّيمون الهندي. ووضعت تلك العين في جرّة من الفودكا الرّخيصة كمادّة حافظة للأغراض جميعها، حتى أتمّكن من العودة إلى المختبر. ثمّ انتزعت قمّل الحوت من جلدها بسكّين الجيب خاصّتي، وهو القمّل نفسه في الفودكا. ومسحتُ شعرها الخشن مثل المكنسة، وكانت كلّ خصلة بطول بوصة أو اثنين وشقراء، وأمّا تلك التي كانت بالقرب من منخرها فقد كانت محمرّة بسبب الدّم الرّاشح منه.
٦.
وكان ردّ إسماعيل على هذا السّؤال برواية قصّة له عندما وجد نفسه، في أثناء إجازة من رحلة أخرى، في جزيرة تؤوي هيكل حوت عنبر عظميّ مجمّع. واقتطع لنفسه ‘قضيب قيس أخضر’ وشرع في قيسه. وبمجرد الانتهاء من ذلك، وشم إسماعيل مقاسات الحوت على ذراعه الأيمن، وذكر أنّه “لم تكن هناك طريقة أخرى مؤكّدة لحفظ مثل هذه الإحصائيّات الثّمينة”.
وفي هذه اللّحظة، يصبح الأمر الاستثنائيّ – تلك الإحصائيّات التي لا تقدّر بثمن – عاديّا بشكل واضح. وكلّما ينظر إسماعيل إلى تلك الذّراع، إلى هذه الأرقام التي اكتست لحما، يعيد قراءة الحوت، ذلك الحوت، بكلّ غموضه وعظمته، ويصبح أكثر ألفة كلّما ألقى نظرة. وتبعا لذلك فمن خلال عملنا اليوميّ الخاصّ مع هذه العظام ومع جدّة حمل عظمة الكعبرة والزّند عبر الغرفة التي سرعان ما تتلاشى وغرابة فرز الأضلاع والعمليّة السرياليّة لربط الفقرات على أنبوب معدنيّ ذي بوصتين، صار هذا العمل المقدّس في التّعامل مع عظام تخصّ غيرنا، وهي الجزء الأعمق من جسد ما، روتينا بشكل ما – روتينا مثل قراءة كتاب ثلاث مرّات في السّنة. وكلّ إعادة قراءة تدعوني إلى جمل ميلفيل. لقد أصبحت تلك الجمل رفيقة لي، رفيقة ليست مختلفة عن حوتي، جملٌ بدأت للتوّ فحسب في تعلّم قراءتها، حوتٌ لن أتعلّم إدراك طوله أبداً.
رابط المقال الأصلي: The Year of the Whale