لقد كان علينا القيام بأشياء عدّة بعد وفاة والدي العام الماضي عقب صراع طويل مع سرطان الدمّ. ولم تكن لتنحصر في ترتيبات الجنازة فقط، بل شملت المسائل اللّوجستيّة الأخرى من قبيل طرح المعدّات الطبية من بيت والديّ وتصنيف الوثائق الماليّة. وشرعت شقيقاتي الكبريات في العمل على الفور؛ إذ عملن بجدّ على تنظيم الأشياء والتّخلّص من بعضها في البيت الذي سكنه والداي في نيوجيرسي. إلاّ أنّني لم أكن على عجلة من أمري لتنظيف أيّ شيء. ولم أرغب خاصّة في تفكيك مجموعة كتب والدي.
تتعلّم بعض الفتيات من آبائهنّ لعب السّوفتبول أو صيد السّمك بالذّبابة الصّناعيّة. أمّا أنا فقد تشرّبت من والدي سلطان الكلمات. كنّا نحن الاثنان جدّ متشابهين، ممّا جعل علاقتنا شديدة الاضطراب أحيانا، ومع ذلك فقد نهلت من حبّه للقراءة والحماسة التي كان يتعامل بها مع اللّغة. وعلى إثر وفاته، بدأت في تجميع البعض من كتبه، كما لو كنت أعدّ برنامجا لدورة أسى خاصّة بي. وكان لديّ بالفعل من ضمن مقتنياتي الثّمينة مجموعة والدي لروايات ف. سكوت فيتزجيرالد الأربع ومنتخبات من الشّعر البريطاني والأمريكي من عام 1945 كنت قد سلبته إيّاها قبل بضعة عقود وترجمة جيمس جويس بقلم ريتشارد إيلمان خاصّته. وكنت إبّان ترعرعي أقضّي ساعات في قبو بيتنا في لونغ آيلاند أحدّق في أظهر كتبه ذات الغلاف المقوّى: جرّة الجرسلسيلفيا بلاث ولمن تقرع الأجراس لهيمنغواي وأرخبيل الغولاغ لألكسندر سولجينتسين.
لقد كان لوالدي اهتمام عميق بالعلم وهو المهندس تكوينا وحرفة. ومع ذلك فقد كان أيضا طالبا واصبا وشغوفا بالموسيقى ورحّالة حول العالم. وتبعا لهذا فإنّ الكتب التي أقرأها تتضمّن عديد الأبعاد، من الرّجل الذي توهّم زوجته قبّعة لأوليفر ساكس إلى ترجمة آلان تورينغ لعام 1983لأندرو هودجز، وروايات غيدو برونيتي لدونا ليون. كما أجريت مراجعة للكتب التي كان والدي يصرّ على أن أقرأها عندما كنت أصغر سنّا ومن ضمنها اقتراحات أبويّة قابلة للنّقاش مثل مدار السّرطان لهنري ميلر. لقد كنتُ تلميذة بالمعهد لمّا اقترح عليّ قراءة هذا الكتاب الخلافيّ نظرا لتوصيفه الاستفزازيّ للجنس، والذي كان محظورا حتى عام 1961 حين بلغ والدي 25 سنة. والمقترح كان من سجايا رجل تحدّاني أن أرتدي حذاءين مختلفين عند ارتياد المعهد لمدّة أسبوعإن استطعت.
لقد بقي والدي مريضا جدّا زهاء العامين من قبل أن يتوفّى منذ عام في سنّ الخامسة والثّمانين. ولكن قبل مرضه، فإنّ ما قاله عن الكتب، وما جسّمه بصدق من خلال عودته أسبوعيّا من المكتبة العامّة ببلدتنا برزمة من الكتب، منحني أسلوب عيش أيّا كانت مهنتي. وعقب وفاته أردت أن أتأمّل فيما كان عليه وما أورثنيه. ولقد قضيت جزءا كبيرا من العام المنصرم في القيام بذلك من خلال قراءة كتبه.
إلاّ أنّ والدي لم يقرأ شيئا تقريبا في السّنة الأخيرة من عمره، وانقطعت جميع تصريحاته البليغة وإعلاناته الجريئة حول الأدب. وكما هو معهود بالنّسبة لمرضى الورم النّقويّ المتعدّد، فإنّه ببساطة توفّي، بعد حياة حافلة بالسّفر خارج البلاد ومسيرة مهنيّة في الهندسة انطلقت بالاشتغال على وحدة الرّحلات القمريّة لبعثات أبولو الفضائيّة (كما دأب على مراقبة أربع بنات بصرامة في أغلب الأحيان). وتبعا لذلك انقضت الأيّام التي ناقشنا فيها أفكارنا – قبل أن أكون مستعدّة. وقبل أن أكون قد أبلغته فعليّا بعظمة تأثيره أو – بصراحة تامّة – قبل منحه نشوة الاعتراف بذلك. لقد استنتجت جدّ متأخّرا أنّه لربّما كان أكثر رجل مثير للاهتمام خَبرته عن كثب.
ولئن كنت لمّا كان والدي على قيد الحياة مهووسة بما قاله، فإنني الآن مهووسة بأغراضه. وكلّما زرت بيت والديّ طوال العام الماضي، فإنّني كنت دوما أقضي برهة وأنا متوقّفة أمام رفوف كتبه. وإنّ كتبه لتخبر عن فضول بالغ. كان لديه الكثير من الكتب الفنّيّة الفخمة الضّخمة عن عصر النّهضة الإيطاليّة والانطباعيّة وما بعد الانطباعيّة والتّعبيريّة التّجريديّة، بالإضافة إلى دراسات عن رامبرانت وليوناردو دافنشي وكاناليتو وديغا وجياكوميتي ومارينو ماريني، وترجمات عظماء الجاز مثل دوك إلينغتون وكتب تاريخ هذا النّوع الموسيقيّ الأمريكيّ – الشّيء الذي ألهمه التّفاني المفرط؛ والرّسائل العلميّة والكتب الهندسيّة التي تحمل عناوين من قبيل دراسات مختارة عن الدّيناميكا الكهربائيّة الكمّيّة. وحيثما وقع نظري بصرت بقصّة حياته.
ومن أوّل كتبه التي ابتغيتها كان ترجمة تورينج، عالم الرّياضيّات البريطانيّ الذي صمّم خلال الحرب العالميّة الثّانية آلة للمساعدة على فكّ شفرة “إنيجما” التي استخدمها الألمان لتشفير اتّصالاتهم. أستطيع أن أتذكّر السّنة التي طلب فيها والدي من والدتي أن تجلبه له في عيد الميلاد، والمشقّة التي واجهتها. لم يكن هناك طريقة للبحث عنه عبر الإنترنت، وما من محلّ كتب مركزيّ كبير، كما أنّ مدّ والدتي بالعنوان لم يضمن لها أيّ شيء كذلك. (كان والداي قد اختلقا شخصيّتين بحيث كان هو الشّخص الذّكيّ وكانت هي الشّخصيّة السّاذجة المقابلة له. إلاّ أنّ الواقع كان مغايرا تماما؛ لم تكن ساذجة حتّى قليلا ما.) ومع ذلك وبعد البحث في كتبيّة تلو الأخرى عثرت عليه، وأتذكّر العديد من المحادثات في كانون الأوّل لمّا أخبرَته شبه مازحة أنّ العثور على هذا الكتاب عن تورينغ كان في حدّ ذاته لغزا.
ووراء قصّة العبقريّ البريطانيّ الذي ساعد في فكّ الشّفرة الألمانيّة، تكمن فكرة أن تورينج الإنسان كان لغزا. وكان والدي، الشّخص المعاكس والمتشبّث بالاختلاف، مهتمّا بالألغاز. والكتاب لا يشحّ بالحديث عن النّظريّة الرّياضيّة أو التّطوّر التّقنيّ الماراثونيّ اللاّزم لفكّ الشّفرة، الشّيء الذي لا بدّ أنّ والدي كان قد ولع به. ويبرز تورينج، وهو أحد روّاد الحوسبة الحديثة، كشخصيّة فريدة – ألمعيّ وثابت العزم ولا يتأثّر بالرّأي العامّ – ذو قصّة مأساويّة للغاية. فبالرّغم من خدمته إبّان الحرب، فقد توفّي بسجلّ إجراميّ، بعد أن أدانته السّلطات البريطانيّة بالمثليّة الجنسيّة. وكما ذكر المؤلّف أندرو هودجز، فقد تمّت مطاردته حتّى الموت.
كان الكتاب منذ البدء محفوظا في ذلك القبو في لونغ آيلاند لأمد طويل، حيث كنت قد استرقت النّظر إلى أرخبيل الغولاغ مرّات لا حصر لها. واحتلّ الكتاب ذو 650 صفحة مساحة كبيرة على الرّفوف، وفيما مضى من سنين كان عرض سولجينتسين عن الأحكام الجزائيّة في روسيا قبل انهيار السّتار الحديديّ بمدّة طويلة أمرا بالغ المشقّة بالنّسبة لي. وما أذهلني هذه السّنة عندما شرعت في قراءة نسخة والدي ذات الغلاف المقوّى لعام 1973 بجدّ هو الفقرة من المؤلّف على الغلاف الأمامي مباشرة، كما لو أنّ الحاجة الملحّة لرسالته تجبره على البدء في تبليغها حتّى قبل أن يفتح المرء الكتاب. والمؤلّف المنشقّ الذي يهدي كتابه إلى “كلّ الذين لم يحيوا حتّى يرووا الحكاية،” يعنون الفصل الأوّل بعنوان بسيط ومقلق: “اعتقال”.
ويذكّرني الكتاب بالتّاريخ الذي شهده الأشخاص الذين ولدوا في ثلاثينيّات القرن العشرين مثل والدي. وإنّها لمفارقة مريرة أنّني أتناول هذا الكتاب الآن فحسب بينما ليس في مقدوري أن أسأله عنه: إذ لمّا كان يسافر في إطار شغله في مختبر حكومي، زار روسيا مرارا وتكرارا في السّنوات الأخيرة من حياته المهنيّة. وبينما كنت أقرأ، تفكّرت في كثرة ما أتمنّى لو أنّني كنت استعرت هذا المؤلَّف ووالدي حيّ يرزق – وهو شعور انتابني لدى قراءة العديد من الكتب الأخرى على رفوفه. وكما هو حال المخلب في لعبة الكرنفال، فإنّ ذهني ليتشبّث بشذرات من تعليقاته على الكتاب، دون أن أقدر على استرجاع ما قاله برمّته.
ربّما كان لتلك الزّيارات فائقة العدد إلى روسيا التي بدأت لمّا كان في الستّينيّات من عمره أن تنهك رجلا آخر. أمّا والدي، الذي وُلد في بايون، نيوجيرسي، على بعد مسافة قصيرة من الميناء الذي كان قد اشتغل فيه جدّه وعلى الجانب الآخر من نهر هدسون من مانهاتن المتلألئة، فقد كان يحبّ السّفر. وعندما كنت أعيش في فلورنسا مغتربا على إثر دراستي الجامعيّة، زارني والدي مرّتين، كانت أولاهما بمثابة محطّة توقّف في طريق عودته من روسيا. لقد سحرته كنائس برونليسكي هنالك. إلاّ أنّ أكثر مدينة إيطالية شغف بها كانت البندقيّة. وغذّى هذا الهوس بتركيب بلاط رخاميّ يجسّد مشاهد من البندقيّة في المطبخ وكذلك بقراءة روايات دونا ليون البوليسيّة التي تبرز كوميساريو غيدو برونيتي.
وكما هو الحال مع عديد الأشياء التي أوصاني بها والدي، كنت قد تجاهلت نصيحته بقراءة سلسلة روايات برونيتي، رافضة الكتب لاعتبارها مجرّد روايات بوليسيّة من وضع أمريكيّ ما كانت لتهمّني، كما أنّها كانت مكتوبة باللّغة الإنجليزيّة. ثمّ لدى عثوري على كتاب غير روائي لـليون بعنوان البندقيّة ومقالات أخرى على رفوف كتب والدي، اهتديت إلى استيعاب مذهل للكيفيّة التي ينشئ بها الرّجال والنّساء علاقات في إيطاليا، بالإضافة إلى ملاحظات حول حضور المياه وما يقابله من غياب السّيّارات التي يعتقد ليون أنّها تحدّد هويّة البندقيّة. وأنا حاليّا بصدد قراءة كتاب من سلسلة برونيتي وعنوانه لوحده يبهجني: أكوا ألتا (أي المياه العالية حرفيّا، وهو التّعبير المستخدم في البندقيّة للإشارة إلى الأيّام التي تفيض فيها القنوات).
ليست كلّ الكتب التي أقرأها هي ملك والدي؛ فهذا العام من قراءتي له يتضمّن أيضا كتبا اقتنيتها بنفسي، وما دفعني إلى إعادة قراءتها هو وفاته. وأحد هذه الكتب هو أحكام معلّقةلباتريك موديانو. لقد كان والدي قد توفّي ذات ليلة باردة من كانون الأوّل، إثر بضع سويعات من مغادرتي له للعودة إلى بيتي في كونيكتكت. ولمّا أقفلت عائدة على متن سيّارتي، توجّهت رأسا إلى خزانة الكتب خلف كرسيّ والدتي في غرفة الجلوس. كنت أعرف أنّني قد تركت رواية موديانو هنالك وكنت بحاجة إلى استعادتها. كنت بحاجة إلى الانغماس في عالم البطل الذي ينبش الماضي باستماتة لكي يدرك كيفيّة وصوله إلى اللّحظة الرّاهنة. وكما أشار مترجم الكتاب، مارك بوليوزوتي، في مقال لمطبعة جامعة ييل التي نشرت الرّواية، فإنّ عمل موديانو ينطوي على “الإحساس الضّمنيّ بأنّنا مهما فعلنا، فإنّه لن يكون البتّة جيّدا بما يكفي لتعويض الخيبات التي نخشى أن نكون قد ألحقناها بأنفسنا أو تلك التي أُلحقت بنا”.
في السّاعات التي أعقبت وفاة والدي، كانت أكثر الخيبات إغاظة لي هي تلك التي أنزلتها به. لذلك لم يكن عمل واحد لموديانو كافيا؛ ووجدت أيضا روايته حتّى لا تضيع في الحيّ (من ترجمة إيوان كاميرون في 2015)، حول كاتب ما يختفي دفتر عناوينه. فيعثر عليه رجل غامض ويخطره بلقيته، ولكن ليس قبل تصفّح مدخلاته. وفي إحدى المراحل، يذكر موديانو “قطعة من الواقع” ضمّنها في مؤلّف روائيّ مختلف، ويكتب قائلا أنّها كانت مثل “تلك الرّسائل الخاصّة التي يضعها النّاس في الإعلانات الصغيرة في الصّحف والتي لا يمكن فكّ رموزها إلاّ من قبل شخص واحد لا غير.” وهي بعبارة أخرى مفاتيح. لقد فتّشت أغراض والدي كما لو كانت مفاتيح، في محاولة لاكتناه ما كان قد فاتني في الحياة. وعندما يقرأ المرء موديانو، يستنتج أنّه كما لو أنّنا نعيش طفولتنا في حالة حلم، ونقضّي بقيّة حياتنا ونحن نحاول إعادة تشكيل ما حدث وما يعنيه. إنّ عمل موديانو يقنعني بأنّه لا شيء يأسر انتباهنا – ولا شيء يحوي نفس القدر من الغموض الحميميّ السّاحر – مثل الطّفولة. لذا فإنّ قراءته رائعة بالنّسبة للسّنة الموالية لوفاة والدي.
هنالك كتاب آخر قرأته هذا العام ولم يكن والدي قد نصحني بقراءته ولكنّه كان ليقدّره: إن كان هذا إنسانا للكاتب بريمو ليفي. وبصفتي مترجمة غير دائمة للأدب الإيطاليّ، فقد قرأت رواية ليفي عن حبسه في معسكرات الاعتقال باللّغتين الإنجليزيّة والإيطاليّة. لكنّني أوّل ما سمعت عن ليفي كان عن طريق والدي، سنة 1987 على الأرجح، حينما انتحر الكاتب والكيميائيّ الإيطاليّ الفذّ، بعد أربعين سنة من تحريره من معسكر أوشفيتز. كان لليفي خصلتان يقدّرهما والدي: النّباهة العلميّة الرّفيعة واهتمام ثابت بالأدب.
ولا يزال لديّ المزيد لأقرأه في السّنة المقبلة – بضع روايات لإيريس مردوخ ورواية الابن الأصليّلريتشارد رايت، وقد سحبتها جميعها من رفوف كتب والدي؛ ونسختي الخاصّة من مسرحيّة ذا كوير فيلو لبريندان بيهان (التي تتضمّن أسطرها الاستهلاليّة العبارات التّالية بطريقة رائعة: “ذلك المثلّث القديم راح يجلجل ويصلصل،” والتي توجد أيضا على ملصق لكبار الكتّاب الأيرلنديّين أهدانيه والدي)، بالإضافة إلى بعض الكتب التي أَصرّ على تقديمها إليّ في مسعى ناجح بتحمّس دينيّ (أو باعتداد مفرط)، بما في ذلك ترجمة إيلمان لجويس، والتي سبرت بفاعليّة بالغة صلة الرّوائي الايرلنديّ بوالده الموسومة بالتّعذيب – وهي جزئيّة نقلها لي والدي بالطّبع.
وعليّ أن أعثر بعدُ بين أغراضه على أشرطة الكاسيت التي طالما كنت أستعيرها والمحتوية على إلقاء روائيّين بريطانيّين رفيع لقصائد كلاسيكيّة. ما زلت أستطيع أن أسمع صوت الرّاوي الشّجيّ وهو يلقي بترنّم، مثل جرس يقرع السّاعات، هذا البيت من ديلان توماس، وهو أحد الشّعراء المفضّلين لوالدي: “ولن يكون للموت سلطان.”
هناك أياّم عديدة يكون فيها للموت اليد العليا بكلّ تأكيد بالنّسبة لي، إذ أنّه حرمني من والدي قبل أن أتمّكن من التّمتّع جيّدا بنهجه في الحياة – نهج فريد ونشيط ومغيظ أحيانا. ولكنّني بإحاطة نفسي بأغراض والدي، وخاصّة كتبه، فإنّني أقاوم قبضة الموت. أحبّ أن أفكّر أنّ ما سيهيمن عليّ بدلا منه هو هذا التّشارك مع الكلمات، فهو الذي له القدرة على تغيير حياتنا. له القدرة على نحت كياننا. وهذا ما أكسبنيه والدي، هذا ما بقي بداخلي – إلى جانب كتبه – الآن وقد رحل إلى الأبد.
رابط المقال الأصلي: The Books That Made My Father