1 يناير 1841.
الكلّ، رجالا ونساءً، يتودّدون لواحد. هنالك عبق في أنفاسهم.
وبينما كنّا نمضي قدما، كانت الرّياح الشّرقية تعصف بخيولنا اللاّهثة.
وإن كانوا الآن يبغضون، فأنا أتأمّل كما في طقس مظلم وغائم، دون أن أيأس من الشّعاع الغائب.
هنالك، يُشعل النّجمُ الأحمر المتأخّر الأنوارَ.
* * *
1 يناير 1842.… للرّوح الفاضلة جَلَد وجسارة لا يمكن للجنود أو المستكشفين أن ينافسوها. هي لا تنحسر أبدا. تذهب إلى عملها وهي تغنّي. الجهد هو استراحتها. إنّ من قام بأعمال العالم الخشنة الرّائدة هم الأكثر إخلاصا للجمال…. حَمْلتهم تكون في الشّتاء. هم لا يدخلون إلى الأحياء السّكنيّة. وهم مَرِنُون تحت أثقل الأعباء، تحت أقصى درجات المعاناة البدنيّة.
* * *
1 يناير 1852.… لقد لاحظت أن حالة مزاجيّة ما هي النّاقد الطّبيعي لحالة مزاجيّة أخرى. عندما أكون مغمورا بشعور قويّ تجاه موضوع ما يختلف عن الموضوع الذي أكتب عنه، أعرف حقّ المعرفة ما هو الجيّد وما هو السّيّء فيما كتبته عن الأخير. يبدو لي الآن كما سيبدو بعد عشر سنوات. حياتي إذا جادّة، ولن تتحمّل أيّ تسويات أو هراء. ما هو زائف أو مزيّف أو عديم الصّلة ينكشف بفضل هذا المقياس. وفي ضوء الشّعور القويّ، تأخذ جميع الأشياء أماكنها، وتُرى الحقيقة من كلّ ضرب على أنّها كذلك. الآن دعني أقرأ أشعاري، وسأخبرك إذا كان للإله يد فيها. أودّ أن أتفحّص تأليفي للحظة من أقلّ وجهة نظر ملائمة. أودّ أن أرى نفسي في المستقبل، وأتطلّع إلى عملي كما لو كان بناءً على السّهل، لألاحظ أيّ أجزاء قد تآكلت تحت تأثير العوامل الطّبيعيّة.
* * *
9:30 مساء. إلى ‘فير هافن’. القمر أكثر من نصف ممتلئ بقليل. ولا وجود لسحابة في السّماء. إنّها ليلة دافئة على نحو غير عاديّ لهذه الفترة، والأرض شبه عارية تماما. النّجوم متألّقة بشكل مذهل. قد يكون الخطأ في جفاف نفسي، ولكن يبدو لي أنّ هناك فقرا معيّنا في سماء اللّيلة الشّتويّة. إنّ النّجوم ذات القدر الأعلى أكثر سطوعا وتألّقا، وبالتّالي تبدو أقرب وأكثر عددا؛ بينما تلك التي تبدو غير واضحة وبعيدة بلا حدود في الصّيف، وتعطي انطباعا بعدم العمق في السّماء، بالكاد تُرى على الإطلاق. مداخل السّماء الأماميّة مضاءة بشكل ساطع لدرجة أنها تطغى على الأجزاء الأكثر بُعدا. لقد انخفضت السّماء لعدّة درجات.
إنّ أسوأ نوع من الإزعاج أو القراد الذي يمكن أن يتسلّل إلى أعماقك هو نفسك في حالة مزاجيّة غاضبة.
… هذه هي بعض الفروق بين هذا وبين ليل الخريف أو الصّيف: التّربة المتصلّبة تحت قدمي، تألّق النّجوم وقربها الظّاهري، اللّمعان الأقلّ من الجليد على الأنهار والبرك، البقع البيضاء في الحقول والخطوط بجانب الجدران حيث تبقى بقايا الثّلوج التي لم تَذُب بعد. ربّما الشّيء الوحيد الذي تحدّث إليّ في هذه النزهة كان الصّخرة الرّماديّة العارية المغطّاة بالأُشنة عند المنحدر، في ضوء القمر، عارية وأقرب إلى الدّفء كما في الصّيف.
لديّ إيمان كبير للغاية بقوّة الحقيقة في إيصال نفسها لدرجة أنّني لن أصدّق صديقا، إذا قال لي إنّه قد صدّق إشاعة غير عادلة عنّي. أن تشكّ! آه، نعم، يمكنك أن تشكّ في ألف شيء، ولكنّني أعلم جيّداً أنّ أكثر ما تشكّ فيه بثقة هو الحقيقة فحسب. شكوكك الأخرى مجرد نكهات تشدّد من شكّك الرّئيسي هذا. إنّها التّوابل التي إن تمّ تناولها وحدها تكون فقط لاذعة للفم.
* * *
1 يناير 1853. لدينا هذا الصّباح شيء بين الجليد والنّدى على الأشجار وما إلى ذلك. الصّخور المكسوّة بالجليد تبدو كصخور من الشَّبّ. إنّه هذا وليس الضّباب المتجمّد أو النّدى، بل الرّذاذ المتجمّد، الذي جُمع حول أصغر النتوءات، يُبرز الأعشاب والنّباتات الأقلّ جفافا. وحيث كان بالأمس سهلا أملس، فإنّه يظهر الآن محصولا غنيّا من الأعشاب الجليديّة الدّسمة. وتتضخّم سيقان الأعشاب على الجانب الشّماليّ من عشر إلى مئة مرة. أمّا الإضافة فتحدث بشكل جداً عامّ على الجانب الشّماليّ لدرجة أنّ المسافر لا يمكنه أن يفقد نقاط البوصلة اليوم، رغم أنّه لا يمكن للظّلام أن يكون شديدا؛ فكلّ عشب سيخدمه كدليل، مميّزا من أيّ جانب جاءت العاصفة بالأمس. هذه السيقان المستقيمة من الأعشاب تقف مثل العصيّ البيضاء أو الصّولجانات، وتُكوّن مقدّمة بارزة للمنظر الطّبيعيّ، من ستّ بوصات إلى ثلاث أقدام ارتفاعا. اِعتقدَ “سي” أنّ هذه الفروع الجليديّة الدسمة على الأعشاب والنباتات الجافّة لا تحتوي على نواة؛ لكن بعد النّظر عن كثب، أرَيتُه الخيوط السّوداء الرّفيعة التي تلتصق بها، ممّا جعله يضحك من الدّهشة…. ويبرز البرسيم والحُميض بريقا أخضر باهتا من خلال هذا الغلاف الجليديّ، كنباتات غريبة…. وتحملُ بعض الأعشاب الجليدَ بكُتل، وبعضها، مثل عشب البوق والبابونج، في كرات لكلّ زهرة جافّة. يا له من تهشّم جواهرٍ وأنت تتجوّل! لا يمكن لأيّ متجوّل غير مبال لم يكلّف نفسه النّظر إلى هذه الأعشاب البسيطة من قبل، إلاّ أن يلاحظها الآن. لهذا السّبب تُترك الأعشاب لتبقى جافّة في الحقول طوال الشّتاء. ويبرز على قاعدة صلبة من الجليد موجّهة في جميع الاتّجاهات بين الشّمال الغربي والشّمال الشّرقي، أو ضمن حدود 90 درجة، شوك صغير أو نقاط متبلورة، بطول نصف بوصة أو أكثر. وعلى الأرض المظلمة والمكسوّة بالثّلج، حيث ترتفع ساق رفيعة، يغطّي جانبها الشّماليّ بسخاء برماح بيضاء كالثّلج، مثل غطاء رأس هنديّ، كما لو أنّه قد جذب الصقيع كله. وقد رأيت شجيرة ‘بريونس’ مليئة بالتّوت الكبير بجانب الجدار في حقل ‘هوبارد’. فبالوقوف على الجانب الغربي، كان التّباين بين التّوت الأحمر وتغطيته أو امتداده باللّون الأبيض على الجانب الشّمالي رائعا. لقد اعتقدت أنّني لم أشاهد التّوت بهذا السّطوع المبهر من قبل قطّ. كان الجانب الشّمالي بأكمله من الشّجيرة، بما في ذلك التّوت والسّاق، مكسوّا بشكل جميل، وعندما ذهبت إلى الجانب الشّمالي، كانت حُمرة التّوت تبرز بلطف، ممّا أعطى الشّجيرة البيضاء كالثّلج لونا خفيفا، مثل سماء المساء بعيدا. كان هذا التّوت المغطّى بالثّلج أو الجليد، والمزيّن داخل حدود 90 درجة في الشّمال بجزيئات الجليد أو الشّوك الصغيرة، وضمنه كان الوهج الأحمر وأحيانا اللّون الأحمر الصّافي ذاته، مرئيّا في بعض الأحيان، ممّا خلق مظهر شجيرة توت العلّيق الممتلئة بالفاكهة المفرطة النّضج.
عندما تقف على الجانب الشّمالي من شجيرة أو شجرة، وتنظر إلى السّماء، ترى شبح الشجرة الأبيض فحسب، دون أي ذرّة من الأرضية؛ ولكن عندما تدور حولها، تظهر النّواة الداكنة في المشهد. ويجعل الاحتمالات كلها واردة، سواء كنت تسافر شمالا أو جنوبا. وتشبه أشجار البتولا المتدلّية على طول حواف الغابات ريش النّعام الهوائيّ والخرافيّ كأكثر ما يكون، ولون جذوعها يزيد التّوهّم. ويعطي وزن الجليد أشجارَ الصّنوبر الأشكال التي تكون الأشجار الشّمالية عليها مثل الأرزّ باستمرار، ممّا يجعل الفروع تنحني وتلتوي؛ لأنّ الأغصان والرّيش الصّنوبريّ، عندما يتجمّد، يبقى كما أمسكته الرّيح، وتظهر أجزاء جديدة من الجذع. وبالنّظر من الجانب الشّمالي، لا يوجد خضرة في أشجار الصّنوبر، وتتغيّر طبيعة الشّجرة. تبدو أشجار الصّفصاف على طول حافة النّهر مثل الحشائش في المروج. وتكون السّماء ملبّدة بالغيوم، ويتساقط برد ثلجيّ دقيق ومطر، وتكوّن هذه الأشجار الشّبحيّة منظرا طبيعيّا يذكّرك بـ’سبيتسبرغن’. ها أنا أرى الآن جمال الطّريق العلويّ بجانب الجسر، وأشجار البتولا أدناه تتضخّم في الطريق، تعلوها أشجار الصفصاف والقيقب. وترتفع الأعشاب الدّقيقة والشّجيرات في المروج لتلتقي وتندمج مع الصّفصاف المتدلّي، وتكوّن كلّها انطباعا مبهما مثل الضّباب. عبر كلّ هذا، يمتدّ الطّريق نحو تلك الأشجار البيضاء المغلّفة بالجليد الشّبحيّة أو الخياليّة في المسافة نحو أرض الأرواح. والصّنوبر أبيض كاللّحاف، مزخرف بأشغال تطريز مرفوعة وشرائط وتفاصيل بيضاء. كلّ حزمة من الأوراق أو الإبر ممسّكة بفروع جليديّة تتوّج بكرة ثلجيّة أو جليديّة صغيرة. وأرقّ من القوس الساكسوني هو هذا الطّريق الذي يمتدّ تحت الصنوبر، مغطّى ليس بفروع متقاطعة، بل بأغصان متدلّية ومغطّاة بالجليد ومتباينة. في وسط هذا الصنوبر المهيب المرتفع مثل شبح شجرة مهيب، أرى الأغصان البيضاء المغلّفة بالجليد لأشجار أخرى تظهر ذات طبيعة مختلفة؛ أحيانا أشجار البلّوط ذات الأوراق المغلّفة أو القيقب أو الجوز برذاذ ناعم. إلاّ أنّ الأجمل من الكلّ هو هذا البلّوط الأحمر، بأوراقه المغلّفة مثل الدّروع بسمك ربع بوصة، وألف شوكة رفيعة تشبه التّسنينات الطّويلة بزوايا قائمة مع أسطحها على الأطراف. ويُعطي تأثيرا غنيّا فوق الوصف، حيث يظهر لون الورقة ناعما من خلال الجليد، بلون بنّيّ فاتح رقيق بتدرّجات متعدّدة. وحيث يكون الرّيش في الصّنوبر الصمغيّ قصيراً ومنتشرا بالقرب من الجذع، تتشكّل أحيانا أكواب أو أشعّة خالصة. تقدّم أشجار الصّنوبر الصّمغية ريشا خشنا وثقيلا يشبه ريش السّمك الغطّاس العميق، كلّ منها يحتوي على بقعة أو تجويف داكن في النّهاية حيث تنظر إلى البرعم. واستمع إلى دويّ البركة كما لو كانت مخلوقا عاقلا. فأعود في نهاية المطاف تحت المطر، وأنا مغلّف بطبقة زجاجيّة، مثل الحقول.
* * *
بعد الحديث مع العم ‘تشارلز’ في اللّيلة الماضية حول الشّخصيّات البارزة في هذا البلد، مثل ‘ويبستر’ والبقيّة، وكالعادة، متأمّلين من منهم كان عبقريّا ومن لم يكن، أوصلته إلى فراشه؛ وبعدما ذهبت إلى فراشي سمعت باب الغرفة يُفتح بعد السّاعة الحادية عشرة، وسمعته ينادي بصوت جادّ وجهير، عالٍ لدرجة أنّه أيقظ البيت كلّه: “‘هنري’! هل كان ‘جون كوينسي آدامز’ عبقريّا؟” فأجبت: “لا، لا أعتقد ذلك.” فردّ قائلا “حسنا، لم أكن أعتقد ذلك.”
* * *
1 يناير 1854. أشار ‘لو جين’ إلى وفاة شابّة فرنسيّة كانت قد كرّست حياتها للهنود الحمر في كندا، مستخدما هذا التّعبير: “أخيرا، انفصلت هذه الرّوح الجميلة عن جسدها في 15 مارس”، وهكذا.
تُشير الكتل الثّلجيّة إلى الوقوف أو التّوازن بين تيّارات الهواء أو الرّياح الخاصّة. وفي أعظم العواصف الثّلجيّة لدينا، بما أنّ الرّياح تأتي من الشّمال، تكون أكبر الكتل الثّلجيّة على الجانب الجنوبيّ من البيوت والأسوار. … ألاحظ أنّه في الزّاوية التي يشكّلها منزلنا والمستودع، وهي المعرّضة للجنوب الغربيّ، لا يتراكم الثّلج بالقرب من المضخّة، بل على بُعد قدم واحد، مُشكّلا وعاء دائريّا، ممّا يُظهر أنّ هناك دوّامة حوله. الثّلج يشبه القالب، مُظهرا شكل تيّارات الهواء الدوّارة التي أثّرت فيه، بينما الكتل الثّلجيّة وما تبقىّ هو ما سقط بين التّيّارات أو حيث وازنت بعضها البعض. هذه الخطوط الحدوديّة هي حواجز جبليّة.
تبقى العصافير ذات الذّيل الأبيض، أو عصافير العشب، حتّى وقت متأخّر نسبيّا تتنقّل في أسراب. تقترب فقط إلى حدود الشّتاء كما يدلّ على ذلك البياض في ذيولها. …
إنّ عصافير الثّلج وعصافير الأشجار هي الأرواح الحقيقيّة للعاصفة الثّلجيّة. فهي الكائنات الحيّة التي تتنقّل فوقها وتعيش فيها.
الثّلج هو الخائن العظيم. فهو لا يُظهر فقط آثار الفئران والقنادس وما إلى ذلك، التي نادرا ما نراها إن وُجدت، ولكنّ عصافير الأشجار تكون أكثر وضوحا على خلفيّته البيضاء، وهي بدورها تنجذب إلى الأعشاب الدّاكنة التي يكشفها الثلج. كما يُجبر الثّلج الغربان والطّيور الأخرى على مغادرة الغابات إلى القرى بحثا عن الطّعام. قد نتوقّع أن نجد في الثّلج أثرا لحياة تفوق حياتنا، والتي لا يدرجها أيّ علم حيواني. ألا يوجد أثر لحياة أسمى من حياة القندس أو الهارب من السّجون يمكن العثور عليها في الثّلج؟ هل نفترض أنّ هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت في الخارج في اللّيل؟ الهنديّ فقط هو من يستطيع رؤية أثر لحياة أسمى من حياة القندس. لماذا تمنحنا سهول الثّلج الشّاسعةِ المتعةَ، وشفق الغابات المنحنية والنّصف مدفونة؟ ألا يتناغم كلّ ما هناك مع الفضيلة والعدالة والطّهارة والشّجاعة والسّموّ؛ وألا يشير كلّ ذلك إلى أثر لحياة أسمى من حياة القندس، حياة لم تمرّ وتترك بصمة فحسب، بل تتواجد هناك بجمالها وموسيقاها وعطرها وحلاوتها لتنعشنا وتعيد تشكيلنا؟ إنّ كلّ ما ندركه هو أثر لروحها. إذا كان هناك حكومة مثاليّة للعالم وفقا لأعلى القوانين، فهل لا نجد أيّ أثر للذّكاء هناك، سواء في الثّلج أو في الأرض أو في أنفسنا، — لا أثر آخر سوى ما يمكن للكلب أن يشمّه؟ ألا يوجد ما يمكن لملاك اكتشافه واتّباعه، — لا شيء يوجّه الإنسان في رحلته الطّويلة، ولا يستطيع الماء إخفاءه؟ ألا توجد أيّ رائحة للقداسة يمكن إدراكها؟ هل أنّ أثرها قديم جدّا؟ هل فقد البشر القدرة على الشمّ؟ لماذا تمنحنا سهول الثّلج الشّاسعةِ المتعةَ، وشفق الغابات المنحنية والنّصف مدفونة؟ ألا يوجد صيّادون يسعون وراء شيء أسمى من الثّعالب، بحكم أرقى من حواسّ كلاب الصّيد، وينضمّون إلى موسيقى أرقى من تلك التي يعزفها بوق الصّيد؟ كما يتنازع الصيّادون من سيكون الأوّل في الوصول إلى البركة بمجرد أن يتحمّل الجليد، رغم البرد، وكما يتقدّم الصّيّادون إلى الميدان بمجرّد أن تتساقط الثّلوج الأولى، كذلك يجب على من يرغب في الاستفادة القصوى من حياته في سبيل الانضباط أن يكون نشطا صباحا ومساء، رغم البرد والمطر، في سعيه وراء فريسة أسمى، آثارها أكثر وضوحا، حياة نسعى لامتلاكها لا لتدميرها، حياة لا تدفن نفسها في الأرض، ولا تختبئ في الأشجار، بل ترتفع إلى السّماوات كموطن لها؛ والتي يطاردها الصّيّاد بأفكاره وطموحاته المجنّحة (تلك الكلاب التي تلاحقها)، ويجمع صيده بأبواق الإيمان الذي لا يموت…. هل يحتاج الهنود والصّيّادون فقط إلى أحذية الثّلج، بينما يجلس القدّيس في الدّاخل منتعلا خفّا مزخرفا؟
* * *
1 يناير 1856.… مساءً. إلى ‘والدن’.… على الجليد في ‘والدن’ توجد بلّورات أوراق كبيرة وجميلة بكثرة. غالبا ما يكون الجليد مغطّى بها وكثيفا لعدّة أمتار. يبدو أنّها مرتبطة بالورود، حيث تتجمّع معا لتبدو مثل مجموعة فضفاضة من الرّيش الأبيض الصّغير المنبثق من عُشّ من الزّغب، حيث تختفي سيقانها في عُشّ من الثّلج الناعم، مثل الزّغب حول ساق الرّيشة، وكأنّ سرير ريش قد هُزّ فوق الجليد. وعند التّفحّص الدقيق، فهي أوراق مثاليّة بشكل مدهش، تشبه السرخس، ولكنها عريضة جداً بالنّسبة لطولها، وعادة ما تكون أكثر على جانب واحد من العرق الوسطيّ مقارنة بالجانب الآخر. يتراوح طولها من بوصة إلى بوصة ونصف، وعرضها ثلاثة أرباع بوصة، وتكون مائلة عندما أنظر من الجنوب الغربيّ. تتمتع هذه البلّورات أوّلا بعرق وسطيّ واضح جدّا، رغم أنّه رفيع جدّا بحيث لا يمكن التقاطه؛ ثمّ توجد عروق واضحة تتفرّع من هذا، عادة بشكل متقابل؛ وعروق دقيقة تنبثق مرّة أخرى من تلك الأخيرة، كما في العديد من السرخس، حيث تمتدّ الأخيرة إلى كل تجعّد على الحافة. أمّا إلى أيّ مدى يمكن تقسيمها أكثر من ذلك فهو أمر لا تستطيع العين المجرّدة أن تميزّه. وهي رقيقة وهشّة للغاية لدرجة أنّها تذوب تحت أنفاسك في أثناء النّظر إليها عن كثب. يقول أحد الصّيّادين إنّها كانت أجمل بكثير في الصّباح. في أماكن أخرى، يكون الجليد مغطّى بنوع مختلف من الزّخارف الثّلجيّة في بقع صغيرة، كما لو كانت الشّوفان قد سُكبت، مثل ألياف الأسبستوس ملفوفة بطول نصف بوصة أو ثلاثة أرباع بوصة وعرض ثُمن بوصة أو أكثر. هنا وهناك، توجد بقع منها تمتدّ على قدم أو قدمين، كما لو كانت بعض الحبوب القطبيّة قد سُكبت.
* * *
1 يناير 1858.… لقد كنت مؤخّرا استعرض غابات ‘والدن’ بشكل واسع ودقيق لدرجة أنّني أستطيع أن أرى خريطة في ذهني على أنّها قطع أراض خاصّة بالكثير جداً من الرّجال، وأكون مدركا عند تجوالي هناك أنّني في لحظة معيّنة أنتقل من قطعة أرض لأحدهم إلى قطعة أرض لأحد آخر. وأنا أخشى أنّ هذه المعرفة الجافّة قد تؤثّر في خيالي وتصوّراتي، وأنّه لن يكون من السّهل رؤية نفس البرّيّة والنّشاط الأصلّي كما في السّابق. لن تبدو أيّ شجيرة غير مكتشفة الآن وأنا أدرك أنّه يمكن العثور على وتد وحجارة فيها.
ومن هذه النّواحي، تختلف غابات ‘ماين’ بشكل جوهريّ عن غاباتنا. هنالك لا يتمّ تذكيرك أبدا أن البرّيّة التي تخطو عليها هي في نهاية الأمر قطعة أرض مألوفة لأحد القرويّين، التي جلب منها أسلافُه وقودهم على الزلاّجات على مدى جيل أو جيلين، أو أنّها حصّة أرملة، موصوفة بدقّة في بعض الوثائق القديمة المسجّلة، التي يمتلك المالك أيضا خطّة منها، والتي يمكن العثور على علامات الحدود القديمة لها كلّ أربعين ياردة، إذا كنت ستبحث.
يا له من تاريخ قد يكون لدى هذه البرّيّة في ‘كونكورد’ التي أعشقها كثيرا! كم من الوثائق القديمة تصفها، مكانا برّيّا معيّنا، كيف انتقلت من ‘كول’ إلى ‘روبنسون’، ومن ‘روبنسون’ إلى ‘جونز’، وأخيرا من ‘جونز’ إلى ‘سميث’ على مرّ السّنين. بعضهم قد قطعها ثلاث مرّات خلال حياتهم، وبنى جدرانا وجعل منها مرعىً ربّما، والبعض الآخر أحرقها وزرعها بالجاودار.
* * *
في غابات ‘ماين’، لا يتمّ تذكيرك بهذه الأمور. صحيح أنّ الخريطة تخبرك أنّك تقف على أرض مُنِحَت من قبل الدّولة إلى أكاديميّة معيّنة، أو لدى شرائها من ‘بينغهام’؛ ولكنّ هذه الأسماء لا تفرض عليك شيئا، لأنّك لا ترى ما يذكّرك بالأكاديميّة أو بـ’بينغهام’.
* * *
2 يناير 1841.… كلّ إبرة من إبر الصّنوبر الأبيض تهتزّ بوضوح في النّسيم، وهذا على الجانب المشمس يعطي الشّجرة بأكملها مظهرا لامعا وهزّازا.
* * *
توقّفت فجأة على الطّريق اليوم لأعجب كيف تنمو الأشجار بدون تفكير مسبق، بغضّ النّظر عن الوقت والظّروف. هي لا تنتظر، كما يفعل البشر. والآن هو العصر الذّهبيّ للشّتلات؛ الأرض والهواء والشّمس والمطر تكفي بمثابة فرصة.
لم تكن أفضل في العصور القديمة. ولا يأتي ‘شتاءُ’ ‘ضجرِها’ أبدا. شاهدْ براعم شجرة الحور الأصليّة، التي تقف بمرح أمام الصّقيع على جوانب أغصانها العارية. إنّها تعبّر عن ثقة صرفة.
يمكنني بقلبي المرح أن أكون مقيما مؤقّتا في البرّيّة. سأكون متأكّدا من العثور على أزهار القُطْمير لشجرة القضبان هنالك. وعندما أقرأ عنها في تقارير المستكشفين الشّماليّين بالقرب من خليج ‘بافين’ أو نهر ‘ماكنزي’، فإنّني أرى كيف يمكنني العيش حتّى هنالك أيضا. فهي مخلّصاتي النّباتيّة الصّغيرة. أظنّ أن فضيلتي لن تتراجع قبل أن تعود مرّة أخرى. إنّها تستحقّ أن يكون لها مانح أعظم من ‘نبتون’ أو ‘سيريس’. من هي الإلهة الطيّبة التي منحتها للبشريّة؟
رأيت ثعلبا يجري عبر البركة اليوم بحرّيّة تامّة. كما تتبّعتُ مساره في أشعّة الشّمس من حين لآخر، وهو يركض على قمّة تلّة على القشرة الجليديّة، بدا كما لو أن الشّمس لم تشرق بتفاخر هكذا على المنحدر، والرّياح والغابات صامتة بتعاطف. تخلّيت له عن الشّمس والأرض كما لو كانت ملكه الحقيقيّ. لم يذهب في أشعّة الشّمس، لكنّ الشّمس بدت وكأنّها تتبعه. كان هناك تعاطف مرئيّ بينه وبينها.
* * *
2 يناير 1842. إنّ رنين جرس الكنيسة هو صوت أكثر تناغما بكثير من أيّ صوت يُسمع داخل الكنيسة. جميع القيم العظيمة هي على هذا النّحو عامّة، وتتموّج مثل الصّوت عبر الأجواء. الثّروة لا يمكنها شراء أيّ عزاء أو راحة كبيرة خاصّة. الثّروات هي فقط وسائل للتّواصليّة الاجتماعيّة. سأعتمد على بذخ جيراني لتوفير رفاهيّتي؛ فسوف يحرصون على تدليلي، إذا أردت أن أكون مفرطا في الطّعام. ويبدو أنّ الرّجل الفقير الذي لم يضحِّ بشيء من أجل الإشباع يحصل على متعة أكثر أمانا وطبيعيّة من بذخ جاره أكثر ممّا يحصل عليه بنفسه. إنها منتج طبيعيّ جديد، ومن تأمّلها يستمدّ حيويّة جديدة وراحة كما لو كانت ظاهرة طبيعيّة.
في لحظات الهدوء والفراغ، تكون أفكاري أكثر ميلا للعودة إلى علاقة طبيعيّة عوضًا عن أيّ علاقة إنسانيّة.
إنّ حزن ‘تشوسر’ الصّادق في سنواته الأخيرة على فظاظة أعماله السّابقة، وأنّه “لا يستطيع استرجاع أو إلغاء” ما كان قد “كتب عن حبّ الرّجال المَهين والنّجس تجاه النّساء، ولكن للأسف، فهي الآن تستمرّ من إنسان إلى إنسان”، كما يقول، “ولا أستطيع أن أفعل ما أريد”، هو برمّته مشرفّ جدًا لشخصيّته.
* * *
2 يناير 1853. السّاعة 9 صباحا. نزولا على سكّة الحديد إلى المنحدرات. يوم صافٍ، سماء نقيّة مع بعض السّحب الرّقيقة. في هذا الهواء الصّافي وأشعّة الشمس السّاطعة، لدى الأشجار المغطّاة بالجليد جمال حديث، خاصّة البتولا على حافة غابة ‘وارن’ على جانبي سكّة الحديد، وهي مائلة تماما إلى الأرض بكلّ ضروب الانحناء. من بعيد، بينما تقترب منها من الأطراف، تبدو وكأنّها خيام بيضاء للهنود تحت حافة الغابة. البتولا مميّزة بهذا الشّكل، ربّما بسبب شكل الشّجرة الرّيشي، الذي تدعمه فروعه الصّغيرة العديدة التي تحمل وزنا كبيرا، ممّا يجعلها تنحني إلى الأرض؛ بالإضافة إلى ذلك، بسبب لون اللّحاء، يكون اللّب ملحوظا بدرجة أقلّ. بينما لا تكون أشجار البلّوط فقط أقلّ مرونة في الجذع، ولكن لها أيضا فروع وأغصان أقلّ وأكثر صلابة. وتتدلّى البتولا في جميع الاتّجاهات، مثل ريش النّعام. معظم طرق الغابات غير قابلة للمرور الآن بالعربة، تقريبا حتّى للمسافرين الرّاجلين، بسبب عدد الشّتلات والأغصان المنحنية حتّى الأرض. كلا جانبي الحفرة العميقة يتلألآن في الشّمس كما لو كانا مغطّيين بالفضّة، ورذاذ الأشجار الكثيفة على حافة المنحدر يتلألأ مثل الفضّة. وسلك التلغراف مغطّى بعشرة أضعاف حجمه، ويبدو كسياج خفيف متعرّج عن بُعد.… عندما نصعد إلى الضّفّة عند قطعة أراضي ‘ستو’ الحرجية، ونصادف أكوام الخشب الأبيض للصّنوبر المقطوع حديثًا (لأنّه يزيله بوحشيّة)، يعرض الجليد الشّفّاف مثل طلاء سميك، اللّون الصّافي والرّقيق والمصفرّ لخشب اليقطين ونسيجه بشكل جميل. نختار طريقنا فوق فراش من أغصان الصّنوبر بعمق قدم أو قدمين، تغطّي الأرض، كلّ غصن وإبرة مغطّاة بالجليد بكثافة، كتلة جليديّة هائلة، تلك التي تسحقها أقدامنا، كما لو كنّا نمشي عبر قبو لبعض صانعي الحلويات للآلهة. وتجدّد رائحة الصّنوبر المقطوع حديثا المنعشةِ نشاطَنا، إن كان ذلك تعويضا عن هذا الإتلاف.… إنّني خاصة الآن لألاحظ الورود والتّوت البرّي وتوت الشّتاء بسبب لونها الأحمر. أزهار أشجار الصّفصاف الحمراء أو البنفسجيّة مثيرة للاهتمام كثمار شتويّة، وكذلك الحال بالنّسبة للبتولا. لكن هناك قلّة من الطّيور حولي. يبدو أن مخازنها مقفلة بفعل الجليد، الذي يغلّف الأعشاب والبراعم. حتّى في الأفق البعيد، تتحوّل قمم الصّنوبر إلى شكل شجر التّنّوب أو شجر الصّنوبر، بسبب وزن الجليد الذي يثنيها إلى أسفل، بحيث تبدو كأنّها سبخة صنوبر. ما من شجرتين ترديان الجليد بالطريقة نفسها. وتقدّم أكاليل الصّنوبر القصيرة وإبره شكلا جميلا وفريدا. أرى بعض أشجار البلّوط في المسافة، التي بسبب انحناء فروعها وتقوّسها إلى أسفل وتكتّلها، تحوّلت إلى أشجار البقس الكاملة، ممّا يوحي بأنّ هذه هي خصوصيّة شجرة البقس. القليل جدّا من الأشجار، إن وُجدت، تكون بهذه الطريقة الشّبيهة بالحُزَم، بفروعها المتدلّية برشاقة. أنا أعني بعض أشجار البلّوط الرّفيعة الحمراء والبيضاء التي تُركت مؤخّرا في منطقة مفتوحة. فقط ضع وزنا على نهاية الفروع الذي سيتسبّب في تدلّيها، وعلى كل غصن معيّن الذي يجمعها معا، وستحصل على أشجار البقس المثاليّة. وعند النّظر من الزّاوية الصّحيحة، تتلألأ كلّ شفرة من القشّ المكسوّ بالجليد مثل المنشور ببعض ألوان قوس قزح الأزرق المكثّف أو البنفسجي، والأحمر. الحقل الأملس الذي كان مغطّى يوما ما بالعشب الرّفيع تحوّل الآن إلى أرض قشّ خشنة، حيث تمشي بأقدام طاحنة. من اللاّفت أن الأشجار يمكن أن تستعيد عافيتها بعد الحِمل الذي يثنيها إلى الأرض. أنا أحبّ أن أزن أحد أغصان هذا الصّنوبر. أمّا طابع الشّجرة فقد تغيّر. لقد تجاوزت الآن الأسوار، وأقترب من المنحدرات. أشكال الجليد وتنوعّاته غنيّة على نحو خاصّ هنا، هناك الكثير من الشّجيرات الصّغيرة والأعشاب أمامي، بينما أصعد نحو الشّمس، خاصّة الصّنوبريّات البيضاء الصّغيرة التي تكاد تندمج في الأرض المكسوّة بالجليد. الأشياء جميعها تبدو للعين وكأنها فضّة مصقولة. إنّه بلد خياليّ بامتياز. ويصف ‘لو جين’ المنظر نفسه في كندا عام 1636: “غاباتنا العظيمة لم تكن تبدو سوى غابة من الكريستال.” … الأجراس تبدو بشكل خاصّ عذبة هذا الصّباح. أسمعها أكثر من أيّ وقت مضى على ما أظنّ. … يطيع النّاس ندائها ويذهبون إلى الكنيسة المدفّئة بالموقد، رغم أنّ الله يظهر نفسه للمتجوّل في هيئة شجيرة مغطّاة بالجليد اليوم كما كان قد أظهر نفسه في هيئة شجيرة مشتعلة لموسى في العهد القديم. لقد أشعلنا نارا على المنحدرات. وأثناء تحطيم جثّة صنوبر للحصول على العقد الدّهنية التي وحدها يمكن أن تحترق في هذا اليوم الجليديّ، معرَّضا لخطر إفساد حذائي، وبعد بحث يائس عن حجر، فكّرت كم سيكون مفيدا أن يكون لديّ فأس حجريّ هنديّ لأحطّمه به. لحاء البتولا الأبيض، على الرّغم من كونه مغطّى بالجليد، اشتعل جيّدا. وسرعان ما حصلنا على نار مشتعلة من الصّنوبر الدّهني على رفّ من الصخور حيث كنّا نطلّ على المنظر الجليديّ. كما أن الشّمس كانت تذيب الجليد على الصّخور، وكانت المياه تتدفّق لأسفل في فقّاعات داكنة تشبه الضفادع الصّغيرة. ما أجمل كلمة ‘لهب’؛ فهي تعبّر عن شكل النّار وروحها، متلألئة بلسان متفرّع! أشعلنا النّار لنراها، وليس لنشعر بها، فهي منظر نادر هذه الأيّام. يبدو من الجيّد أن تَأْلم أعيننا مرّة أخرى من الدّخان. يا له من لون غريب يفوق الوصف لهذه النّار! — أصفر مائل إلى الحمرة أو مصفرّ مزعج، ليس بمشرق أو مليء بالنّور بقدر ما هو مفعم بالحياة والحرارة. لقد أحدثت هذه الجذور الدّهنيّة الكثير من اللّهب ودخانا أسود جدّا، يبدأ من حيث ينتهي اللّهب، ممّا يلقي ظلالا متلألئة على الصّخور. كان هناك دخان أبيض مزرقّ من الجزء التّالف من الخشب. ثمّ كان هناك الرّماد الأبيض النّاعم الذي تستخدمه زوجات الفلاّحين أحيانا لتحضير ‘البوتاس’.
* * *
2 يناير 1854.… لا تكون ألوان السّماء عند غروب الشّمس أنقى وأثيريّة أكثر من الأيّام الباردة في الشّتاء. هذا المساء، رغم أنّ الألوان ليست زاهية، فإنّ السّماء بلّورية والغيوم الشّاحبة المائلة للّون البنّيّ الفاتح جميلة جدًا. أودّ الصّعود إلى تلّ لأطلّ على المنظر الشّتوي. إنّنا نتحرّك هذه الأيام وكأنّنا في قيود؛ نخطو كما لو كنّا في الأغلال، نضع أقدامنا في الحفر التي صنعها من سبقونا. … لقد مضى الفريق والسّائق منذ وقت طويل، لكنّني أرى آثار سوط السّائق على الثّلج وارتداده؛ ولكن للأسف! هذه ليست سجلّا كاملا للضّربات التي وقعت على ظهر الثّيران. ربّما اعتقد السّائق القاسي أن لا أحد يراه، لكنّه دون قصد سطّر كلّ ضربة على الثّلج النّقيّ خلفه كما لو كان في كتاب حياة. بالنّسبة للعيون الأكثر تفحّصا، فإنّ آثار السّوط موجودة في الهواء. لقد مشيت جزئيّا عبر غابة الصّنوبر الدّهنيّ، وجزئيّا عبر الحقل المفتوح من الطّريق السّريع بجانب مكان لي إلى السّكك الحديديّة من الشّمال إلى الجنوب، لأكثر من ربع ميل، وقست كلّ عشر خطوات. كان متوسّط القياسات البالغ عددها خمسة وستون، صعودا وهبوطا، تسع عشرة بوصة. كان هذا بعد زيادة بوصة واحدة لتلك التي في الغابة (قليلة جدّا)، بسبب الثّلج على الصّنوبر. … أعتقد أنّه سيكون من الضّروري أن يقيس المرء ميلا على خطّ شمال-جنوب، صعودا وهبوطا، عبر الغابات والحقول، للحصول على نتيجة موثوقة تماما. قد ينزلق الثّلج أحيانا عبر عرض حقل كامل، ويملأ طريقا أو وادٍ، لذا سيكون من الجيّد أن تشمل القياسات العديد من هذه الانزلاقات. لا يمكن الاعتماد كثيرا على التّقديرات المعتادة لعمق الثّلج. لقد سمعت رجالا مختلفين يحدّدون هذا الثّلج بعمق ستّ بوصات، وخمس عشرة بوصة، وثماني عشرة بوصة، وأربع وعشرين بوصة، وستّ وثلاثين بوصة، وثمان وأربعين بوصة. وقد غرق حذائي الثّلجيّ في الثّلج هذا الصباح حوالي أربع بوصات، لكن أكثر من ضعف ذلك في التّاسع والعشرين.
على الجانب الشّمالي من السّكك الحديديّة، فوق تقاطع ‘ريد هاوس’، شقّ القطار طريقه عبر كتلة ثلجيّة بطول ربع ميل وارتفاع يتراوح بين مترين وتسع أقدام بشكل عموديّ. وتذكّرني هذه الكتلة بالمرتفعات والصّخور المرسومة وجانب الجبال الجليديّة وما إلى ذلك. الآن بعد أن توارت الشّمس خلف الأفق، من المدهش ما يمتصّه الثّلج من الضّوء النّاعم. يبدو وكأنّ هناك ضوءا أكثر هنا بجانبه مقارنة بأي مكان آخر. أستطيع تقريبا أن أرى إلى عمق ستّ بوصات بداخله. لقد صار شفّافاً لأنّه مشبع بالضّوء.
لقد سمعت عن حجر كريم يُوجد في ‘كونكورد’ يُعرف بحجر القرفة. وصَفَه جيولوجيّ على أنّه موجود في هذه المدينة، وحدّثني مزارع عن واحد وجده ذات مرّة، ربّما هو نفسه الذي أشار إليه الآخر. قال إنّه كان بحجم الطّوب وسمكه كذلك، ورغم ذلك يمكنك تمييز دبّوس من خلاله لأنّه كان شفّافا للغاية.
* * *
2 يناير 1855. بالأمس [أثناء التّزلّج] رأينا الضّوء الورديّ على الثّلج على بُعد خطوة منّا. كانت ظلال الجسور وغيرها على الثّلج بلون أزرق نيلي داكن.
* * *
2 يناير 1859.… وأنا أصعد إلى التّلّ عبر غابة بلّوط ‘ستو’ الفتيّة، أستمع إلى خشخشة الأوراق الجافّة الذّابلة. هذا هو صوت الغابة الآن. ستكون أكثر هدوءاً وكآبة هنا من نواحٍ أخرى إذا لم تكن هذه الأوراق التي تمسك بالوجود. تبدو كهدير البحر، ويشعر المرء بالانتعاش مثل ذلك، مشيرة إلى كيف أنّ الأرض كلها هي ساحل للبحر الهوائيّ. إنّه صوت الموج المتلاطم والدّويّ لمحيط غير مرئيّ، – أمواج الهواء تنكسر على الغابة، كالماء على ذاته، أو على الرّمال والصّخور. يرتفع وينخفض، يتضخّم ويخفت، بتناوب مريح كما يفعل الموج المتلاطم. ربّما يمكن لساكن اليابسة أن يتنبّأ بالعاصفة بفضل ذلك. إنّه من المثير للاهتمام مدى شموليّة هذه الهمسات العظيمة، هذه الخلفيّات الصوتيّة، – المدّ والرّياح في الغابة والشّلاّلات وما إلى ذلك، – والتي تكون للأذن وفي أصلها صوتًا واحدًا جوهريّا، صوت الأرض، تنفّس الكائن أو شخيره. الأرض هي سفينتنا، وهذا هو صوت الرّياح في شراعها ونحن نبحر. تماما كما يسمع سكان ‘كيب كود’ المدّ ينكسر دائما على شواطئهم، فإنّنا نحن الرّيفيّين نسمع هذا المدّ المشابه على أوراق الغابة. عند اعتباره كصوت، على الرّغم من أنه ليس مفصّلا، كما تنقسم أصواتنا المفصّلة إلى أصوات العلّة (على الرّغم من أن هذا أقرب إلى الأصوات السّاكنة) والشّفويّة واللّسانيّة والحلقيّة والحروف الصّفيريّة والسّاكنة والتّنفّسيّة وما إلى ذلك، فيمكن أن يُطلق على هذا الصوت ‘صوت الأوراق’ أو ‘صوت الزّهور’، الذي ينتج عن الهواء المندفع ضدّ الأوراق، ويدنو كأقرب ما يكون إلى أصوات الصّفير أو التّنفّس.
قال ‘ميشيو’ إنّ الأشجار البلّوطية البيضاء قد يُميّزها الاحتفاظ بأوراقها في الشّتاء، لكن حسب ملاحظتي، لا يمكن تمييزها بهذه الطّريقة. قد تحتفظ جميع أشجار البلّوط الكبيرة لدينا ببعض الأوراق عند قاعدة الفروع السّفلى وحول الجذع، وإن كان ذلك قليلاً، ولا تميّز البلّوط الأبيض عن غيره في هذا الصّدد؛ بينما تكون هذه الأشجار، عندما تكون صغيرة، جميعها مغطّاة بأوراق كثيفة في الشّتاء، إلاّ أنّ أوراق البلّوط الأبيض هي الأكثر ذبولاً وجفافاً من بينها جميعا.
مع وجود بعض الثّلوج على الأرض، يمكنني بسهولة تمييز الغابات على الجبال (مثل تلال ‘بيتر بورو’ وما إلى ذلك)، وأحدّد أيّها مغطّاة بالغابات، حيث تبدو تلك الأجزاء، وتلك الجبال مظلمة مثل الظلّ. ولا أستطيع تمييز الغابات بهذه الطريقة في الصّيف.
عندما أسمع الشّجار المفرط في النّقد حول القواعد والأسلوب وموقع أدوات الجرّ وما إلى ذلك، ممّا يجعل كل متحدّث يتمدّد أو يتقلّص بحسب قواعد معيّنة، – ربّما لم يتحدث السّيّد ‘ويبستر’ وفقا لقواعد السّيّد ‘كيركهام’، – أرى أنهم ينسون أنّ أوّل متطلّبات التّعبير وقواعده هو أن يكون حيويّا وطبيعيّا، مثل صوت متوحّش أو تعبير عفويّ: أوّلا، اللّغة الأمّ؛ وأخيرا، اللّغة الاصطناعيّة أو الأبويّة. جوهر الأمر أن جملتك الشّعريّة الأكثر صدقا تكون حرّة وغير مقيّدة مثل ثغاء الخروف. والنّحويّ غالبا ما يكون شخصا لا يستطيع أن يصرخ أو يضحك، ومع ذلك يظنّ أنّه يمكنه التّعبير عن المشاعر الإنسانيّة. كما أن معلّمي المشية يخبرونك كيف يجب أن تسير، ربّما بتدوير أصابع قدميك بشكل مفرط؛ لكنّ هؤلاء الذين يمشون بشكل جميل لا يُصنعون هكذا.
يقول ‘مينوت’ إنّ الثّعلب سيقود الكلب إلى الجليد ليدخل هو أيضا. يروي قصّة ‘جاك لاكين’ الذي فقد كلبا من نوع ‘هاوند’ بسبب ذلك، غرق تحت الجليد أسفل ‘هولت’. … لقد كانوا في السّابق يعبرون النّهر هناك على الجليد، متّجهين إلى السّوق.
* * *
3 يناير 1842. من الممتع عندما يمكن للمرء أن يخفّف من فظاظة المطبخ والطّاولة بجمال بسيط في وجبته، بحيث يمكن أن يكون هناك أيّ شيء يجذب عين الفنّان أيضا. كنت أطهو الذّرة المحمّصة هذه اللّيلة، والتي هي مجّرد تفتّح أسرع للبذور تحت حرارة أكثر من حرارة يوليو. الذّرة المحمّصة هي زهرة شتويّة مثاليّة، تلمّح إلى الأنيومات والهيوستونيات. … هنا قد تفتّحت من أجل وجبتي زهرة رقيقة كما ستنمو قريبا بجانب الجدران، وهذا كما ينبغي أن يكون. لماذا لا ينبغي للطّبيعة أن تستمتع أحيانا، وتسترخي بلطف، وتجعل نفسها مألوفة على مائدتي؟ أودّ أن يكون منزلي بستانا ملائما للاحتفاء بها. إنّها وليمة من براءة قد تكون تساقطت؛ على مدفأتي الدّافئة نَمَت هذه الأزهار الحبوبيّة؛ وهنا كانت الضّفّة الذي نَمَت عليها. أظنّ أنّ بعض هذه العلامات المرئيّة للموافقة سترافق دائما الوجبة البسيطة والصّحّيّة، – بعض الابتسامات أو البركات عليها. يجب أن تكون شهيّتنا دائما جدّ مرتبطة بطعمنا، ويجب أن تكون مائدتنا ملخّصا للجدول البدائيّ الذي تضعه الطّبيعة على الشّاطئ بجانب الغابات والجداول لمستأجريها الصّامتين.
* * *
3 يناير 1852.… روح تمرّر أوتار طنبور التّلغراف، فتنساب أنغام الموسيقى فجأة، تماما مثل السّلك نفسه. … ماذا حدث لقصّة صَدفة السّلحفاة على شاطئ البحر الآن؟ العالم شابّ، والموسيقى هي صوته الطّفوليّ. لا أفقد الأمل في عالم حيث يمكنك فقط شدّ سلك عاديّ من شجرة إلى شجرة لسماع مثل هذه الأنغام التي تستخلصها نسائم ‘نيو إنجلاند’، ممّا يجعل اليونان وكل العصور القديمة تبدو فقيرة في اللّحن. لماذا خُلق الإنسان بطريقة تجعله يشعر بالإثارة في أعماق كيانه نتيجة اهتزاز سلك؟ أليس الإلهام والنّشوة اهتزازا أسرع للأعصاب تجتاحها الرّوح المتحمّسة المندفعة، سواء كانت نسيما عليلا أو ريحا شماليّة في طبيعتها؟
* * *
3 يناير 1853.… إنّي لأحبّ الطّبيعة جزئيّا؛ لأنّها ليست بشرا، بل ملاذا منه. لا تتحكّم فيها أي من مؤسّساته أو تشملها. هنا تسود نوعيّة مختلفة من الحقّ. في أحضانها يمكنني أن أكون سعيدا تمام السّعادة. إذا كان هذا العالم كلّه بشراً، لما استطعت أن أتمدّد. كنت سأفقد الأمل كله. هو قيد؛ أمّا هي فحُريّة بالنسبة لي. هو يجعلني أتمنّى عالما آخر؛ أمّا هي فتجعلني راضيا عن هذا. ما من فرح من الأفراح التي توفّرها خاضع لقواعده وتعريفاته. ما يلمسه يلوّثه. في الفكر، يقوم بالتّقويم الأخلاقي. يمكن للمرء أن يظنّ أنّه لا يوجد عمل مبهج حرّ له. ما أكثر النّقاء والصّفاء في أبسط متعة تستند إلى الطبيعة مقارنة بتهاني البشر! إنّ الفرح الذي تمنحه الطّبيعة ليشبه ذلك الذي توفّره كلمات صريحة من شخص نحبّه.
الإنسان، الإنسان هو الشّيطان،
مصدر كل الشّرور.
أنا أعتقد أن هؤلاء المتحدّثين ببرود، بمقولاتهم وقوانينهم، لا يعرفون إلى أيّ مدى يمكن أن يكون الإنسان سعيدا. أيّ حكمة وأيّ تحذير يمكن أن يتغلّب على السّعادة؟ لا يوجد قانون قويّ بما يكفي ليستعصي تجاوزه على سعادة ضئيلة. لديّ غرفة خاصّة بي بالكامل. إنّها الطّبيعة. إنّها مكان خارج اختصاص الحكومات البشريّة. كدّسوا كتبكم وسجلاّت الحزن ومقولاتكم وقوانينكم، فالطّبيعة سعيدة في الخارج، وديدانها الكثيرة بالدّاخل ستسقط كلّ ذلك قريبا. … الطّبيعة هي براري الخارجين عن القانون. هناك عالمان: مكتب البريد والطّبيعة. وأنا أعرفهما الاثنين. وأنسى البشر ومؤسّساتهم باستمرار، كما أنسى مصرفًا.
رابط المقال الأصلي: Winter Days
تأليف: هنري ديفيد ثورو